في عالم التكوين المهني، يُعد "البرنامج الدراسي" (Programme d'Études - PE) الوثيقة الأهم والبوصلة الأساسية التي توجه عمل الأستاذ (المكون) يوميًا. هذا المقال هو دليل شامل وموسع يستعرض كل جوانب هذه الوثيقة المحورية، من هيكلها العام إلى تفاصيلها الدقيقة، بهدف تمكين كل فاعل في الميدان من استيعابها واستثمارها على أكمل وجه.
البرنامج الدراسي (Programme d'Études): الدليل الإلزامي لتدريس وتقييم الكفاءات
في قلب منظومة التكوين المهني المبنية على المقاربة بالكفاءات (Approche Par Compétences - APC)، يمثل البرنامج الدراسي الوثيقة الرسمية التي تترجم احتياجات سوق العمل إلى أهداف تعليمية وتعلّمية واضحة. إذا كان المرجع المهني للكفاءات يصف "ماذا" يفعل المهني، فإن البرنامج الدراسي يحدد بدقة "ماذا وكيف" سيتعلمه المتربص ليصبح كفؤاً. بالنسبة للأستاذ، هذه الوثيقة هي عقد بيداغوجي يضمن توحيد معايير التكوين على المستوى الوطني.
1. طبيعة ووظائف البرنامج الدراسي
البرنامج الدراسي هو وثيقة إلزامية (prescriptif) تقدم مجموعة متماسكة من الكفاءات التي يجب اكتسابها. وتتجلى أهميته في أربع وظائف أساسية ومترابطة:
- مرجع للتعليم والتعلم: يصف البرنامج النتائج المنتظرة بدقة، مما يوجه الأستاذ في تصميم أنشطة التعلم.
- مرجع لتقييم المكتسبات: بما أن الكفاءات الموصوفة هي الأهداف الإلزامية، فإنها تشكل الأساس المباشر لبناء أدوات التقييم.
- مرجع للتنظيم البيداغوجي والمادي: يوجه البرنامج المؤسسات التكوينية لتوفير الموارد البشرية والمادية اللازمة لتنفيذه بفعالية.
- مرجع لمنح الشهادة (Sanction des études): لا يمكن للمتربص الحصول على الدبلوم إلا بعد إثبات اكتسابه لجميع الكفاءات الموصوفة في البرنامج.
2. هيكل البرنامج الدراسي: من الرؤية الاستراتيجية إلى الخطة التنفيذية
يتكون البرنامج الدراسي من جزأين متكاملين: جزء يقدم رؤية شاملة، وآخر يفصل كل وحدة دراسية على حدة.
الجزء الأول: نظرة شاملة على البرنامج (Vue d’ensemble du programme)
يقدم هذا الجزء صورة بانورامية للبرنامج، مما يسمح بفهم هيكله العام وأهدافه الكبرى. ويتضمن العناصر التالية:
- جدول ملخص البرنامج (Tableau-synthèse): يعرض قائمة جميع الوحدات (Modules) بأرقامها وعناوينها ومدتها.
- أهداف البرنامج (Buts du programme): تصف النتائج الكلية المنتظرة من التكوين.
- قائمة الكفاءات المستهدفة (Liste des compétences visées): تسرد جميع الكفاءات التي سيتم تطويرها.
-
مصفوفة الكفاءات (Matrice des compétences): الخريطة الاستراتيجية للبرنامج
تُعتبر مصفوفة الكفاءات أداة تحليل وتخطيط حيوية، وظيفتها تقديم صورة مرئية وشاملة لهيكل البرنامج بأكمله، وإبراز العلاقات المنطقية والوظيفية بين مكوناته.
أ. هيكل ومكونات المصفوفة:
المصفوفة عبارة عن جدول يضع الكفاءات الخاصة (compétences particulières) على المحور العمودي، والكفاءات العامة (compétences générales) مع مراحل عملية العمل (processus de travail) على المحور الأفقي.
- المحور العمودي (الكفاءات الخاصة):
- رقم الكفاءة (Numéro): يحدد الترتيب المقترح لاكتساب الكفاءات (من البسيط إلى المركب).
- عنوان الكفاءة (Libellé): الاسم الرسمي للكفاءة.
- نوع الهدف (Type d'objectif): يحدد نوع الهدف العملياتي ("سلوكي" (c) أو "وضعي" (s)).
- المدة (Durée): عدد الساعات التقديرية اللازمة لاكتساب الكفاءة.
- المحور الأفقي (الكفاءات العامة وعملية العمل):
- الكفاءات العامة: كفاءات قابلة للتحويل (transférables) تدعم تعدد المهارات.
- مراحل عملية العمل: المراحل المتسلسلة التي يمر بها المهني لإنجاز عمله.
- الروابط الوظيفية (Liens fonctionnels): هي أهم ما تبرزه المصفوفة، ويتم استخدام رموز لتوضيحها:
- الدائرة (): رابط بين كفاءة عامة وخاصة.
- المثلث (): رابط بين مرحلة من عملية العمل وكفاءة خاصة.
- الرمز المظلل ( أو ): رابط قوي وإلزامي يجب أخذه في الاعتبار عند صياغة الهدف العملياتي.
ب. دور ووظيفة المصفوفة: هي أداة تحليل، تساعد على تحديد تسلسل التعلم، تضمن تكامل المهارات، وتعتبر أداة تواصل فعالة للفريق البيداغوجي.
- المحور العمودي (الكفاءات الخاصة):
-
المخطط الانسيابي (Logigramme): خريطة الطريق البيداغوجية
المخطط الانسيابي هو تمثيل تخطيطي (représentation schématique) يوضح التسلسل الذي يجب أن تُكتسب به الكفاءات. إنه يوفر تخطيطاً شاملاً للبرنامج ويُظهر الترابط الكامل بين جميع الوحدات.
أ. أساس بناء المخطط الانسيابي:
يُبنى المخطط مباشرةً على أساس مصفوفة الكفاءات ويجب أن يحترمها. بينما تحدد المصفوفة الترتيب العام، يضيف المخطط بعداً تنظيمياً بتوضيح الوحدات التي يمكن تدريسها بالتوازي.
المنهجية المتبعة لبناء المخطط:
- تحليل المصفوفة: لفهم العلاقات بين الكفاءات.
- تحديد القيود التنظيمية: تحديد الكفاءات المسبقة (Préalables)، والمتوازية (en parallèle)، والمستقلة (non reliées).
- رسم المخطط: بوضع كل وحدة في مربع وربطها بأسهم توضح مسار التعلم.
ب. كيفية قراءة المخطط ودوره العملي:
- الوحدات على نفس الخط العمودي هي متطلبات مسبقة لبعضها (من الأعلى للأسفل).
- الوحدات على نفس الخط الأفقي يمكن تدريسها بالتوازي.
دوره العملي: يُعتبر أداة أساسية لبناء الجداول الزمنية (Chronogramme) وتوزيع المهام بين المكونين.
الجزء الثاني: الأهداف العملية والاقتراحات البيداغوجية لكل وحدة (Module)
هذا هو الجزء الذي يتعامل معه الأستاذ بشكل يومي ومباشر. لكل وحدة، يقدم البرنامج قسماً خاصاً بها يحتوي على عنصرين:
- أ. الهدف العملياتي (Objectif opérationnel) - (الجزء الإلزامي):
هو ترجمة الكفاءة إلى هدف بيداغوجي دقيق يصف الأداء المنتظر. يوجد نوعان:
- الهدف السلوكي (Objectif de comportement): يُطبق على الكفاءات التي تتطلب أداءً قابلاً للملاحظة والقياس.
- الهدف الوضعي (Objectif de situation): يُستخدم للكفاءات ذات البعد الاجتماعي-العاطفي (كالتواصل)، ويركز على جودة مشاركة المتربص.
- ب. الاقتراحات البيداغوجية (Suggestions pédagogiques) - (الجزء الإرشادي):
هذا القسم مخصص لمساعدة الأستاذ وهو غير إلزامي، مما يمنح الأستاذ حرية الإبداع والتكيف. ويتضمن بيانات حول الوحدة، نص وصفي، وجدول مواضيع ومحتويات التكوين.
3. دور الأستاذ في استثمار البرنامج الدراسي
بالنسبة للأستاذ، البرنامج الدراسي هو الأداة المركزية التي ينطلق منها لتخطيط وتنفيذ وتقييم أنشطته اليومية.
- على مستوى التخطيط: يستخدم المخطط الانسيابي ومصفوفة الكفاءات للحصول على رؤية شاملة، ثم يعد خطط الوحدات والدروس.
- على مستوى التدريس: يقود الأنشطة التعليمية مسترشداً بـ "سياق الإنجاز" (Contexte de réalisation) و"معايير الأداء" (Critères de performance).
- على مستوى التقييم: يعتمد على "التحديدات" (Précisions) و"المعايير" (Critères) لتصميم أدوات التقييم التكويني والتحضير للتقييم الختامي.
ختاماً، يمثل البرنامج الدراسي الوثيقة التي تضمن التماسك (Cohérence)، الدقة (Précision)، والشفافية (Transparence) في العملية التكوينية. إتقان فهم واستخدام هذه الوثيقة هو مفتاح نجاح أي مكون في تحقيق الهدف الأسمى: تأهيل يد عاملة كفؤة ومستعدة للاندماج الفعال في الحياة المهنية.