المرجع المهني للكفاءات (RMC): حجر الزاوية في بناء برامج تكوين مهني متوائمة مع سوق الشغل
في قلب استراتيجية تحديث منظومة التكوين والتعليم المهنيين بالجزائر، والتي تهدف إلى مواءمة مخرجات التكوين مع متطلبات اقتصاد السوق، تبرز المقاربة بالكفاءات (APC) كإطار منهجي شامل. هذه المقاربة، التي تم تطويرها بالتعاون الجزائري الكندي بين عامي 2004 و2012، تضع سوق العمل كمنطلق لعملية التخطيط البيداغوجي وكوجهة نهائية للمتخرجين. ولضمان هذا الربط الوثيق والفعال، تعتمد المقاربة على سلسلة متكاملة من الوثائق المرجعية التي تُعرف بـ"وثائق البرمجة" (documents de programmation). في مقدمة هذه السلسلة، ومنبعها الأساسي، يقع المرجع المهني للكفاءات (Référentiel de Métier et de Compétences - RMC)، الذي يُعد الوثيقة التأسيسية التي تُبنى عليها كافة مراحل تصميم وتنفيذ وتقييم البرامج التكوينية.
1. تعريف المرجع المهني للكفاءات (RMC): صورة دقيقة لعالم الشغل
المرجع المهني للكفاءات هو وثيقة مرجعية تقدم "صورة" شاملة ومفصلة للمهنة في سياقها الحقيقي، وتصف طبيعتها وشروط ممارستها ومتطلباتها في بيئة العمل الحالية والمتوقعة خلال السنوات الخمس القادمة. إنه ليس مجرد وصف نظري، بل هو نتاج عملية منهجية دقيقة تُعرف بـ"تحليل وضعية العمل" (Analyse de Situation de Travail - AST)، والتي تتم بالتعاون الوثيق مع ممثلين من عالم الشغل. هؤلاء الممثلون، من عمال مؤهلين، فنيين، ومسؤولي تأطير، يضمنون من خلال مشاركتهم أن المحتوى يعكس الواقع المهني بشكل دقيق ويحظى بتوافقهم (Consensus).
يتكون المرجع المهني للكفاءات من جزأين متكاملين:
-
الجزء الأول: مرجع المهنة (Le Référentiel de Métier): وهو الجزء الذي يصف المهنة وشروط ممارستها بناءً على المعلومات المجمعة من الخبراء المهنيين. يتضمن هذا الجزء عدة أقسام منظمة:
- بيانات عامة عن المهنة: تشمل التسمية، وصف عام للمهنة، شروط الالتحاق بسوق العمل، المعدات والمواد المستخدمة، ظروف العمل، المسؤوليات، وإمكانيات الترقية.
- تحليل المهام والعمليات (Analyse des tâches et des opérations): يتم فيه تحديد المهام الرئيسية للمهنة (Tâches)، وهي الأنشطة التي لها بداية ونهاية واضحة وتؤدي لنتيجة ملموسة، والعمليات (Opérations) التي تمثل مراحل إنجاز كل مهمة.
- شروط الإنجاز ومعايير الأداء (Conditions de réalisation et critères de performance): لكل مهمة، يتم تحديد الظروف التي تُنفذ فيها والمعايير التي يُحكم من خلالها على جودة الأداء عند مستوى الدخول إلى سوق العمل (seuil d'entrée sur le marché du travail).
- المعارف والمهارات والسلوكيات (Savoirs, Savoir-faire, Savoir-être): تحديد ما يجب على المهني معرفته، وما يجب أن يكون قادراً على فعله، وكيف يجب أن يتصرف لممارسة المهنة بكفاءة.
- اقتراحات متعلقة بالتكوين (Suggestions relatives à la formation): يقدم الخبراء المهنيون اقتراحات حول التكوين، مثل ضرورة تنظيم تدريبات ميدانية أو التركيز على جوانب معينة.
- الجزء الثاني: مرجع الكفاءات (Le Référentiel de Compétences): هذا الجزء لا يتم إعداده من قبل خبراء المهنة مباشرة، بل هو نتاج عمل فريق تصميم مشروع التكوين بعد تحليله للجزء الأول. ويقدم قائمة الكفاءات المستهدفة التي تم اختيارها لتكون أهدافاً للبرنامج التكويني المستقبلي.
2. عملية الإعداد: من الحاجة في السوق إلى وثيقة مرجعية
لا يتم إعداد المرجع المهني للكفاءات بشكل عشوائي، بل يتبع منهجية صارمة تضمن تمثيله للواقع المهني. تبدأ العملية بـدراسات التخطيط (دراسات قطاعية ودراسات أولية) التي تحدد الحاجة لمراجعة أو إنشاء برنامج تكويني لمهنة معينة. بعد ذلك، يتولى متخصص في إعداد البرامج (SEP) تشكيل فريق عمل يضم خبراء من عالم الشغل يمثلون مختلف أنواع الشركات (صغيرة، متوسطة، كبيرة) والمناطق الجغرافية المعنية.
يقوم هذا الفريق بـتحليل وضعية العمل لجمع البيانات عبر وسائل متعددة مثل تنظيم ورشة عمل (وهي الطريقة المفضلة)، أو إجراء مقابلات فردية، أو استخدام استبيانات، أو الملاحظة المباشرة في بيئة العمل. خلال هذه العملية، يتم جمع بيانات تفصيلية وتحديد العناصر المذكورة سابقاً بدقة (المهام، العمليات، شروط الإنجاز، معايير الأداء، إلخ).
بعد جمع البيانات ومعالجتها، تتم صياغة النسخة الأولية لمرجع المهنة وعرضها على المتخصصين من عالم الشغل للتحقق من مطابقتها (Conformité) للواقع. بعد ذلك، يقوم فريق التصميم بتحليل هذه الوثيقة واستخلاص الكفاءات المقترحة، والتي تُعرض بدورها على ممثلي المهنة للتحقق من أهميتها (Pertinence).
3. الدور المحوري للمرجع المهني للكفاءات في تصميم البرامج
يُعد المرجع المهني للكفاءات (RMC) نقطة الانطلاق والمصدر الأساسي لجميع وثائق البرمجة اللاحقة، مما يضمن وجود ترابط وتسلسل منطقي بين تحليل احتياجات سوق العمل والتكوين المقدم. إنه يمثل حلقة الوصل التي تضمن أن تكون الأهداف التكوينية والتقييمية والتنظيمية مستمدة مباشرة من واقع المهنة.
- مشروع التكوين (Projet de Formation): يتم استخلاص الكفاءات الخاصة (Particulières)، المرتبطة مباشرة بمهام المهنة، والكفاءات العامة (Générales)، القابلة للتحويل وتدعم تعدد المهارات، مباشرة من تحليل مرجع المهنة، خاصة من أقسام المهام والعمليات والمعارف والمهارات والسلوكيات.
- البرنامج الدراسي (Programme d'Études): هو وثيقة إلزامية (prescriptif) تصف مجموعة متماسكة من الكفاءات المطلوب اكتسابها. تُستخدم "شروط الإنجاز" و"معايير الأداء" المذكورة في المرجع المهني للكفاءات لصياغة "سياق الإنجاز" (Contexte de réalisation) و"معايير الأداء العامة والخاصة" (Critères de performance) لكل هدف عملياتي (Objectif opérationnel) في البرنامج الدراسي.
- المرجع الخاص بالتقييم الختامي (Référentiel pour l'Évaluation de Sanction - RES): تُبنى مواصفات وأدوات التقييم (مثل جداول المواصفات) على أساس متطلبات الأداء المحددة في المرجع المهني للكفاءات والبرنامج الدراسي، مما يضمن أن يعكس التقييم معايير سوق العمل.
- المرجع الخاص بالتنظيم البيداغوجي والمادي (Référentiel pour l'Organisation Pédagogique et Matérielle - ROPM): تُستمد قائمة التجهيزات والمواد والموارد البشرية اللازمة لتنفيذ التكوين من "شروط إنجاز المهام" الموصوفة في مرجع المهنة، بهدف محاكاة بيئة العمل الحقيقية قدر الإمكان.
بهذا، يضمن المرجع المهني للكفاءات وجود تسلسل منطقي وترابط وثيق بين مختلف مكونات العملية التكوينية، بدءاً من تحليل احتياجات سوق العمل وانتهاءً بتنظيم التكوين وتقييمه.
ختاماً، لا يمكن تصور بناء برنامج تكويني ناجح وموائم لسوق الشغل وفق المقاربة بالكفاءات دون الاعتماد على مرجع مهني للكفاءات دقيق وشامل. فهو ليس مجرد وثيقة وصفية، بل هو أداة استراتيجية تضمن أن يكون المتخرج من منظومة التكوين المهني مسلحاً بالكفاءات الفعلية التي يطلبها سوق العمل. هذا الربط المباشر يعزز من فرص إدماجه المهني ويدعم في الوقت نفسه القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني من خلال توفير يد عاملة مؤهلة وقادرة على الأداء الفعال.